تيتسويا هوندا
 
أجرت شركة "أدوبي" في 2018 استطلاعاً صنفت فيه اليابان من أكثر الدول إبداعاً، تبعتها الولايات المتحدة، وبالطريقة نفسها
صنفت طوكيو من أكثر المدن إبداعاً، تلتها نيويورك.
نحن كشعب ياباني نشعر بالامتنان لمثل هذا التصنيف العالي على المستوى العالمي، لكن لماذا تمت رؤية اليابان على أنها
مبدعة جداً؟
في الواقع الأجوبة ليست واضحة، حتى الناس الذين انجذبوا إلى تعبير "يابان المتفوقة أو الرائعة" "Cool Japan" الذي أطلقه
الصحافي دوغلاس مكغري "Douglas McGray" في مقال له بمجلة "فورين بوليسي" للدلالة على تأثيرها الثقافي الكبير
وقوتها الناعمة الصاعدة، ربما لم يعرفوا من أين اكتسب الشعب الياباني هذا التفوق وقوة التأثير.
وفي الحقيقة حتى الشعب الياباني نفسه بشكل عام يأخذ هذا الأمر على أنه من المسلمات، إلا أنني  في محاولة
لكشف أسرار الإبداع الياباني، طوّرت ثلاث عبارات أساسية سأحاول أن أشرحها، وقد تطرقت إليها في كلمتي عن موضوع
"الإبداع الياباني الذي يغير العالم" في مهرجان كان ليونز الدولي للإبداع الذي انعقد مؤخراً.
 
عبارتي الأولى هي "رفض الكمال تماماً". غالباً ما ينظر الآخرون إلى اليابان على أنه بلد مثالي، ويتضح ذلك على سبيل المثال
في دقة مواعيد القطارات باليابان، ومن أبرز هذه القطارات توكايدو شينكانسين "Tokaido Shinkansen" وهو القطار
السريع الذي يدور 120 مرة في السنة بخط سيره، إلا أن متوسط ​​التأخير عنده ليس أكثر من 36 ثانية.
ومع ذلك، عندما نفكّر في سين نو ريكيو "Sen no Rikyu"، مبتكر طقوس تقديم الشاي الياباني القديم الذي صمم أكواب
الشاي في شكل ناقص قبل نحو 500 عام، نرى أن الشعب الياباني يجد الجمال في عالم غير كامل. وطريقة التفكير هذه مأخوذة
في الأساس من الديانة الشنتوية، التي لها تأثيرها البالغ في تفاصيل الحياة اليومية اليابانية بشكل عام، إذ أنه يتم ربط الناس مع
الطبيعة في الشنتوية، والطبيعة دائماً تفتقد إلى الكمال.
ومع الكثير من المعلومات والمحتوى الذي يحيط بنا ويشتت انتباهنا، فإننا نولي القليل من الاهتمام لأي شيء يبدو كاملاً للغاية.
ولذلك، فإن فكرة "رفض الكمال تماماً" مهمة بالنسبة لنا، وهذا هو السبب الذي يجعل الفتيات في المدرسة الثانوية اليابانية
يرفضن الكمال من خلال ارتداء الزي الرسمي بطريقة بديلة، فكل واحدة يمكن أن تعدّل شيئاً بسيطاً عليه، بما يتلاءم معها. كما
تجد في الثقافة اليابانية تصاميم غير مكتملة مثل شخصية يوريو كيارا "Yuru-kyara" التي يتخذونها في الترويح لحدث أو
منطقة، أو شخصية كومامون "Kumamon" التي تم ابتكارها في العام 2010 بمحافظة كوماموتو اليابانية لجذب السياح، أو
شخصية فوناسشي "Funasshi" التي تمثل مدينة فوناباشي وتساعد في الترويج لها، وتظهر هذه الشخصيات في مهرجانات
وأحداث وبرامج تلفزيونية جماهيرية في اليابان، وهي رغم العيوب التي فيها، يتم تقبّلها بين المجتمع الياباني وهي خير تجسيد
وتعبير عن فكرة "رفض الكمال تماماً"، كما أن شخصيات الملصقات المستخدمة في تطبيق  "LINE" والذي يستخدمه  200
مليون شخص بنشاط عبر هواتفهم، مستوحى من فكرة "رفض الكمال تماماً".
 
عبارتي الثانية هي "الطفل الداخلي". فضلاً عن الكمال، تعتبر سيادة القانون والنظام من ركائز الثقافة اليابانية، فخلال ساعة
الذروة في طوكيو، يقف الناس بصورة منتظمة في خط لركوب القطارات، وهذا السلوك المنظم لديهم، حتى في خضم الكوارث، يدهش الآخرين حول العالم. ومع ذلك، فإن الشعب الياباني في كثير من الأحيان، رغم النظام العام الذي يقيّده، تجده يطلق العنان
لذاته ولا يعير اهتماماً لما يمكن أن يقوله الآخرون، خاصة أثناء الحفلات، حيث يستمتع بالمأكولات والمشروبات المحلية
الشهيرة لديه، ويمكن لأي فرد أن يتصرف بتلقائية كبيرة إلى درجة يظهر فيها كالأطفال بسلوكياته، والسبب لأن الشعب الياباني
يحتفظ بالطفل داخل نفسه، ويمكنك أن ترى هذا أثناء ممارسة فن "كوزبلاي" لعروض الأداء، حيث يرتدي الممثلون ثياب
شخصيات الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو، كما ظهرت حملات عديدة في عدد من المناسبات، ارتدى منظموها أزياء متنوعة
تعبر عن هذه الشخصيات، فكانت خير تعبير عن الطفل الذي يسكنهم.
 
أما عبارتي الأخيرة فهي "مبدعو المرحلة المقبلة". ويرتبط هذا بالإبداع الناشئ عما يمكن أن يأتي من مزيج بين فكرة "رفض
الكمال تماماً" و"الطفل الداخلي"، وتطور هذا المبدأ من خلال تقليد المبدعين والمبتكرين في أعمالهم. إذ تقف عند فكرة "رفض
الكمال تماماً" تجدها تعطيك الحرية في أن تعدّل وتكيّف ما يمكن أن يأتي من إبداعات، إيماناً منك بأنها ليست كاملة، ويمكن أن
تضيف عليها شيئاً من إبداعاتك، وفكرة "الطفل الداخلي" تشجعك على اللعب مع هذه الإبداعات الأصلية بطريقة سلسة. بالتالي،
الإبداع يمكن أن يتطور عبر تقليد الأصل، فيعاد خلقه من قبل مجموعة متنوعة من البشر.
ويمكن أن يتم رؤية عملية ابتكار سلسلة لا نهائية من خلطات معكرونة "رامن" اليابانية الشهيرة، حيث تطورت بنكهات غريبة
ومختلفة. إن فكرة "مبدعي المرحلة المقبلة" في "رامن" اليابانية تجذب الاهتمام من كل أنحاء العالم، حيث هناك ظهرت نكهات
لا تعد ولا تحصى من معكرونة "رامن"، إلا أن كل عملية ابتكارية جديدة لوجبة "رامن" مرت عبر سلسلة من التقليد والمزج.
وقد وصف شيهيرو ميازاكي، مدير متجر سورانويرو الأمر بأنه "الجيل القادم من مبدعي رامن"، وقال: "أعتقد أن أساس
الأمر هو في التقليد. يمكنك أن تصنع شيئاً جديداً من خلال التقليد، من خلال إضافة حكمك الخاص، يمكنك حينها أن تعيد تأسيس
العمل الإبداعي وتخلقه بصيغة تناسبك".
 
نعيش اليوم في عالم يزدحم بالمعلومات، ووسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن السيطرة عليها، فضلاً عن وجود آلية مشاركة
كبيرة في الإبداع. وأعتقد أن هذه العبارات الثلاث تفسر السبب الذي يجعل وضع الإبداع الياباني جيداً. وهذه في رأيي هي
الطريقة التي يغيّر بها الإبداع الياباني العالم.
 

  • تيتسويا هوندا مؤسس "مجموعة بلوكارينت اليابان"  والمدير التنفيذي لها

المصدر: "بي آر ويك" العالمي.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).